الاثنين، فبراير 28، 2011

أبو بدران يبحث عن الآمان (رواية) - الفصل الثامن


أبو بدران يبحث عن الآمان )رواية( - الفصل الثامن
الفصل الثامن
تأملات غريب
كان يمشي عاقداً يديه خلف عجزه ، يهبع في مشيته ، وقف بعد أن انهد حيله ، حاول ان يبلع ريقه الذي نشف ، يلملم أفكاره ويجر رجليه بالخيبة ، مشوار العمر ضاع ، مسح دمعة سالت على خده ، هاهي سلسلة طويلة من الأيام واحلام اليقظة، تكبر الهوة بين المعرفة والحقيقة ، أشياء تجلب العزاء ، والفرح للآخرين ، شأن عجيب ، تتمزق نفسه من فرط التأثر ، هاجمه إحساس بالعصبية على نحو مخيف ، هموم صغيرة تكبر ، دنيا زاهرة بالاعاجيبب.
تراوده أفكار وافكار ، هاهي الحياة تفور من حوله ، الناس مندفعون ، طالعون نازلون ، يخبئون احلاماً ومشاريع ، وطموحات وسعادات ، وعلى الشفاه إبتسامات ، وعلى الوجوه علامات السرور والفرح ، واخرون مثله يحملون احباطات واهات وألآم ، يحملون الدنيا كلها فوق اكتافهم ، لكنهم أفضل منه ...  هكذا يبدو له ، أنه هو الوحيد الذي يعاني من جور الدنيا ، وحده بدون مساعد ، غريب في بلاد الغربة ، أو أنه الغريق الذي يتشبث بحشرجاتة الآخيرة في بحر عميق متلاطم الامواج ، يبحث عن النجاة ، عن السعادة والجاه ، يمشي بين الناس لا يعرفهم والكل يعرفه ـ غريب ـ ذو لون مميز ، مخيف الكل يرهبه ، إذا صعد في الحافلة الكل ينظر له ، نظرات خوف لا نظرات إشفاق ، ويكمش حقائبه إلى صدره إذا كانت أنثى ، أو يضع يده على جيبه يتلمس مخفظته إذا كان ذكراً ، أصبح شعاره بينهم بالحرامي ومنظره يوحي إليهم بالنشال ، بالرغم أنه لم يعرف السرقة في حياته ، ـ لكن أذا وجد أجنبي واحد في البلد نشال ، فالفكرة تشمل جميع الأجانب ـ ، الكل يشير له بنظراته أن يبتعد عنه ، أن ينزل من الحافلة ، حتى انه كره صعود الحافلات إلاّ للاضطرار ، وعندما يصعد يكون قد هيئ نفسه ، وأخذ حذره ، واستعد لامتصاص نظرات الازدراء ولاحتقار ، مهما كلفه ذلك من كرامة نفسية ، وهل بقي لنا من كرامة ؟!! . 
زمن أصبح فيه كما أمسى ، مكتئباً يبكي على شجنه ، على غربته ، أنهار من الدمع ، عاش مكروب ، أستحوذت عليه الكآبة المستعصية ، فعقدت عليه حبالها ، فأشتهر في حياته بتالاحق المحن ، ومعايشة الألم ، والأنغماس في الكآبة ، فضاع عمره ، من قلق إلى خوف إلى قلق ، القسوة على النفس والغوص في الذات ، بما فيها من إيحاءات ، يتعرض من خلالها إلى تحورات تحليلية، إلى نسق ، لحظة من شوق ، نوع من الألتئام ، فيض هائل من الحوال ، أحلام هائلة تُنشط مركز المخ ، فتجعله في أعلى حالات نشاطه ، بذبذبات عالية متوالية ذات أغوار عميقة ، ودروب ملتوية تتخلل في عالم المجهول ، حالات مختلفة الفنون، في أفاق الخيال الذي لا حدود له .
كانت العناصر الطيبة والسعيدة داخله تجول بغير نظام ، الناس من حوله يعرفوا كيف يمتعوا أنفسهم ، كان من الممكن أن ينظم اليهم وأن يسير في ركبهم ، وان يكتسب حق الوجود في هذه الحياة ، لكن جذوره الطاهرة تأبى عليه الانزلاق في أوحال الرذيلة ، عندما يحاول أن ينزلق يتدارك بغشاوة أمام عينيه وبشي يبعده بعيداً ، محروس بفضل الله وبدعاء الوالدين ، لم تكن سوى جذوره التي نبتت في المكان الطيب ، او روحه التي تحب العفاف تحاول ان تجمح نزواته.
إيمان لا يتزعزع ، لا يهتز ، ولا يتسلل إليه الشك ، أو الضعف ، عندما تهب عليه أعاصير الأحباط وترك الثقة بالنفس تتبدد الأنوار أمام عينيه باللامبالاة ، ويسود الأعتقاد الثابت ، الذي لا تهزه الرياح ، لآن القلب يستقرق فيه ، يتصور أمور لا تدرك ، يغتم حيناً والغم والألم يستيلاء عليه ، ألمه المفرط ، الصور الجميلة الباطنية التي لا يدركها سوى العقل . هكذا سبق قضاء الله وقدره ، فمتحن بالوحدة والانفراد والغربة والتشرد والفقر وانعدام الحال الذي عليه طال الحال .
مهما طال به المقام في دقة الملاحظة ، ومهما أرخى لفكره العنان واليقظة المتناهية والوعي العميق ، للبحث عن مكان للخروج من هذا الحظ المنحوس ، او الحظ المثبور على مدى الدهور والعصور فلن يصل إلى قرار .
يحاول أن يجد شئ يلوذ إليه ويحتمي به ، يأتيه الصدى التعس ، يتفقد أحواله ليل نهار الطريق طويل وشاق ، لا سبيل للخروج من هذه المصيببة إلاّ بالصبر وبالشعور بالبهجة ولو ان في القلب غصة ، لا يكفي تعذيب النفس والتخيل والأستقراق في الخواطر الغامضة ، وحيداً لكن احلامه واحزانه يشاركنهه بإبتسامة بائسة تغور قبل الوصول إلى الشفتين .
حالة الفرح تجول داخله لكنها لا تجد المخرج ، فتعود مرتدة ، متخذة دور الرياح الجافة ، لكنها أحياناً في بعض المناسبات تجد بعض الثغور تنفذ منها ، فتظهر على شكل إبتسامات ، أو تظهر على الوجه بعض علامات السرور ، احياناً الشعور بالسعادة يسري منه مسرى الدم ، فيبقيه كأنه مخمور.
احياناً أبو بدران يضع نفسه في موقع المتفائل للحياة ، يتخيل مستقبله ، أو حاضره ، بالنظرة المتفائلة ، وينظر إلى الدنيا بنظرة سعادة وارتياح ، ويقول إنما المشاكل سوى سحابة صيف زائلة ، ويمني نفسه ويعللها بانواع السعادة والهناء والحنان ، فلا يفيق من أحلامه إلاّ على الحياة بواقعها المر ، وهي تصدمه بالامور الواقعية ، ومجريات الساعة ، وبالمشكلات اليومية ، التي ليس منها مهرب ، فوقف حائراً ، بعد ان فاق من خياله ، وتنهد بزفرة وقال :
كم بنينا من قصورٍ عاليات   بالخيال والأوهام عامرات
حالات الأغتراب الطويل والصبر على المصائب من علامات تقوية الشخصية ،  الزمن يمر كالسهم مندفعاً للأمام ، علامات الألم على الجبين ، حيرة إبتسامة حزينة ، الشعيرات البيضاء التي تزين الرأس في إزدياد مستمر ، سنوات تضاف للعمر .
اما مكان نوم الأحزان فلا يليق لها إلاّ بين جفنيه، أصبح وحيداً ، القلق والضجر ولانفراد مسيطرات عليه ، المستقبل الغامض ، لا يرى خلفه إلاّ زوابع مليئة بالعواصف والضباب تحثه على الجري امامها ، ومن امامه لا يرى سوى مستقبل مظلم لا تبدؤ في سماءه سوى سحب داكنة ليس فيها أي برق يببشر بخير ، ينزلق بحزنه إلى اعماق الهاوية ، من وجهه تبدؤ سواء  مجرد عينين حزينتين غائرتين في الأعماق ، تجمعان كل نظرات الأحزان الموجودة في الكون ، هذا الحزن الذي أصبح زوج لحياته لا يريد أن يطلقها ، يمضي الليل بدون نوم من الغضب والألم النفسي .
شعور شاذ غريب لا يستطيع فهم نفسه ، متقلب المزاج ، هكذا شاءت الأقدار أن ينسج اماله كيفما يشاء له فكره ، يزداد حزنه ، يشعر بالأسى النفسي يمزقه ، تقلبات لحظه مستمرة ، ودائماً في صفوف الحضيض ، تظهر من عينيه نظرات الغضب .
لايعرف كيف يمنح نفسه الابتسامة ، ان الحياة بكاهلها القت عليه المشقة . الموهبة التي كانت عنده قد امست في خبر امسى او كان او ظل ، موهبته نحو الحياة تظهر على شكل علامات اصفرار و شحوب و عبوس في صفحات وجهه الذي بداء بالذوبان . يتخيل نفسه جالس مرتاح البال في بيت هادئ وامامة كاس شاي أو فنجال قهوة يحتسيه بنشوة وسعادة ، بعيداً عن الاحساس الحزين الذي ترعرع في أغوار نفسه ، او السخط والنقمة التي في نفسه.
بدا يبحث عن  نفسه في المرآة ، وقف امامها يحدق فيها ، بتأمل تفسه ، هل هو الماثل امام نفسه ، أم لا ؟ لا يرف ، لم يصدق ما رأته عينية ،  بالرغم من أنه لازال شاباً لكنه بدأت علية علامات الشيخوخة ، تساقط نصف شعر رأسه ، والذي بقي قد غزاه الشيب .
 هكذا يتألم طوال الوقت ، انه لم يعد يتحمل التعب النفسي ، عصبي المزاج. ثم بدأت تلاحقه نوبات عصبية ومشاعر غريبة ثائرة بين الفينة والاخرى ، بدون سابق إنذار ، يختلط الواقع بالخيال والامال بالاحباط ، والحلم بالواقع . كابوس الحياة الذي اصبح هوالمسيطر ، او هو الحياة التي اصبحت حلم .
قلق يخطو خطواته ، القلق حط عليه أو ارخي سدوله عليه ، حتى مع البشر لم يكن له حظ ، عندما يحاول عبثاً أن يجد صديقاً متجانس معه ، عند ذلك سيفقد موهبته ، لصنع روابط الحب والصداقة ، الشعور بالوحدة بين الأخرين ، شقاء مع شقاء ، الخوف من المستقبل ، هواجس ، تمنيات شخصية ، رغبات تجعل الحلم هو المحرك الأساسي للعقل ، لا سبيل إلى إقتحام خلوته واجباره على الخروج من هذه المتاهه ، لحضات حرجة ناعمة ودقيقة تبدأ بدبيب مخترقة مسامات وجدران جلده تغوص في أغوار جسده ، إرتعاشات تشتعل في كل كيانه ، نيران القلق تمتزج بأطياف أفكاره مكونة قوة خيال جامحة تسيطر على تفكير عقله .
بدأ يشعر بالدهشة وبإحساس شديد بالتعب ، فلم يفق إلاّ عندما تعثرت قدماه ووقع على وجهه.
نهاية الفصل الثامن

ليست هناك تعليقات: